خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 24 من ذي الحجة 1441هـ - الموافق 14 / 8 / 2020م
إِشْرَاقَـةُ عَامٍ جَـدِيـدٍ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا، وَجَعَلَ اللَّيلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، تَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ:
فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ- وَاعْمَلُوا بِطَاعَتِهِ وَرِضَاهُ، )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ( [الأحزاب 70 – 71].
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ:
لَقَدْ خَلَقَ اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْخَلْقَ لِيُوَحِّدُوهُ وَيَعْبُدُوهُ، وَرَزَقَهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَجَعَلَ لَهُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لِيَشْكُرُوهُ وَيُطِيعُوهُ، قَالَ سُبْحَانَهُ: )وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ( [الذاريات: 56-58]، وَبَيَّنَ لَهُمْ طَرِيقَ الهِدَايَةِ، وَوَضَّح لَهُمْ سُبُلَ الغَوَايَةِ، فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاهُ فَقَدْ فَازَ فَوزًا عَظِيمًا، وَمَنْ سَلَكَ الْغَوَايَةَ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا ) فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى( [طه: 123-124].
عِبَادَ اللهِ:
إِنَّ جُمعَتَـكُمْ هَذِهِ هِيَ آخِرُ جُمعَةٍ مِنْ هَذَا الْعَامِ، وَبَعْدَ أَيَّامٍ قَلِيلَةٍ سَيُطْوَى سِجِلُّهُ بِمَا فِيهِ مِنْ طَاعَاتٍ وَآثَامٍ، فَهَنِيئًا لِمَنْ أَحْسَنَ فِيهِ وَاسْتَقَامَ، وَيَا حَسْرَةَ مَنْ أَسَاءَ فِيهِ وَاقْتَرَفَ الْحَرَامَ، وَلَقَدْ صَدَقَ مَنْ قالَ:
إِنَّـــا لَنَـفْــرَحُ بِـالْأَيَّـــامِ نَقْطَعُهَــا وَكُلُّ يَوْمٍ مَضَى يُدْنِي مِنَ الْأَجَـلِ
فَاعْمَلْ لِنَفْسِكَ قَبْلَ الْمَوْتِ مُجْتَهِدًا فَإِنَّمَا الرِّبْحُ وَالْخُسْرَانُ فِي الْعَمَلِ
أَجَلْ! سَنُوَدِّعُ عَامًا لَا نَدْرِي مَا اللهُ صَانِعٌ فِيهِ، وَنَسْتَقْبِلُ عَاماً جَدِيدًا لَا نَدْرِي مَا اللهُ قَاضٍ فِيهِ، فَكَمِ اسْتَقْبَلْنَا وَفَرِحْنَا فِي هَذَا الْعَامِ بِمَوْلُودٍ! وَكَمْ وَدَّعْنَا وَحَزِنَّا فِيهِ عَلَى مَفْقُودٍ! وَهَذِهِ سُنَّةُ اللهِ فِي تَصْرِيفِ الأَوْقَاتِ وَالأَزْمِنَةِ وَالْعُصُورِ، وَتَجْدِيدِ الأَيَّامِ وَالأَعْوَامِ وَالشُّهُورِ، وَالْعَاقِلُ الْحَازِمُ مَنِ اعْتَبَرَ بِتَصَرُّمِ الأَعْوَامِ، وَاتَّعَظَ بِسُرْعَةِ انْقِضَاءِ الأَيَّامِ، فَحَاسَبَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللهِ الأَمَانِيَّ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ( [الحشر:18]. وَإِنَّ الإِنْسَانَ قَدْ يَحْيَا بِنَفْسٍ مُطْمَئِنَّةٍ سَكَنَتْ إِلَى اللهِ وَاطْمَأَنَّتْ بِذِكْرِهِ، وَاسْتَسْلَمَتْ لِنَهْيِهِ وَأَمْرِهِ، قَالَ تَعَالَى: )يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي( [الفجر:27- 30].
أَوْ يَحْيَا بِنَفْسٍ لَوَّامَةٍ تَلُومُهُ عَلَى الْخَيْرِ إِنْ لَمْ يَفْعَلْهُ، وَعَلَى الشَّرِّ إِنْ فَعَلَهُ، قَالَ سُبْحَانَهُ: )لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ( [القيامة: 1-2].
أَوْ يَكُونُ مِنْ أَصْحَابِ النَّفْسِ الأَمَّارَةِ الَّتِي تَأْمُرُ صَاحِبَهَا بِمَا تَهْوَاهُ، وَتَقُودُهُ إِلَى الْغَيِّ وَالشَّهَوَاتِ وَالْبَاطِلِ بِمَا يَخْسَرُ بِهِ دُنْيَاهُ وَأُخْرَاهُ، قَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: ) إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ([يوسف:53].
فَطُوبَى لِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَعَمِلَ لِذَاكَ الْمَقَامِ؛ لِتَـكُونَ الْجَنَّةُ مَأْوَاهُ، وَوَيْلٌ لِمَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ؛ لِتَـكُونَ الْجَحِيمُ مَصِيرَهُ وَمَثْوَاهُ. وَإِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُ الْمَرْءِ تُحْصَى لَهُ أَوْ عَلَيْهِ، قَالَ رَبُنَّا تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: «يَا عِبَادِي: إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ» [أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ].
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي القُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الحَكِيمِ، أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الصَّادِقُ الأَمِينُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَاتَّقُوا اللهَ وَحَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا، وَزِنُوا أَعْمَالَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُوْزَنُوا؛ فَإِنَّهُ أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ فِي الْحِسَابِ غَدًا أَنْ تُحَاسِبُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ؛ إِذِ الْيَوْمَ عَمَلٌ وَلَا حِسَابَ، وَغَدًا حِسَابٌ وَلَا عَمَلَ. وَالنَّفْسُ كَالشَّرِيكِ الْخَوَّانِ إِنْ لَمْ تُحَاسِبْهُ ذَهَبَ بِمَالِكَ وَأَوْرَدَكَ الْمَهَالِكَ. وَاسْتَدْرِكُوا مَا فَاتَ بِمَا هُوَ آتٍ؛ مِنَ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالِاسْتِعْدَادِ لِدَارِ الْمَعَادِ؛ فَإِنَّ إِقَامَتَـكُمْ فِي الدُّنْيَا مَحْدُودَةٌ، وَأَيَّامَكُمْ فِيهَا مَعْدُودَةٌ، فَاغْتَنِمُوا مِنْهَا مَا يُقَرِّبُكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ وَيُبَاعِدُكُمْ مِنَ النَّارِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرَجُلٍ وَهُوَ يَعِظُهُ: »اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ» [أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيُّ].
فَعليكَ أَخِي المُؤْمنُ بِالعَملِ فِيما يَنْفَعُ، فَكُلَّما ازددْتَ طَاعَةً ازدَدْتَ مِنَ اللهِ قُرْبًا وَمَحَبَّةً، وَمَنْ كَانَ اللهُ مَعَهُ فازَ بِخَيرَيِ الدُّنيا وَالآخِرةِ.
اللَّهُمَّ إِنَّا نسْأَلُكَ المُعَافاةَ الدَّائِمَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ، وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ، وَجَمِيعِ سَخَطِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، وَاشْفِ اللَّهُمَّ مَرْضَانا وَمَرْضَى المُسلمينَ. اللَّهمَّ وَفِّقْ أَمِيرَنَا لِهُدَاكَ، وَاجَعَلْ أعْمَالَهُ فِي رِضَاكَ، وأَلْبِسْهُ ثَوبَ الصِّحَّةِ وَالعَافِيةِ، اللَّهُمَّ وَوَفِّقْ وَلِيَّ عَهْدِهِ الأَمِينَ لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِناصِيَتِهِ لِلبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَاجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا مُطْمَئِنًّا بِالْأَمْنِ وَالْإِيمَانِ وَالسَّلَامَةِ وَالْإِسْلَامِ وَسَائِرَ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.